كيف يؤثر التغير المُناخي على التربة؟ وكيف يُمكن التغلب على هذه التأثيرات؟
طقس العرب - تنشأ الحياة من التربة، إذ تنبثق منها النباتات التي يستفيد منها الإنسان والحيوان، وتسكنها مجتمعات ضخمة من الكائنات الدقيقة والحشرات والحيوانات.
ومن هنا ينبغي علينا الحفاظ على التربة وحمايتها، ولكن في ظل التغير المناخي الذي يشكل تهديداً لكوكبنا في هذه الفترة، تتعرض التربة للعديد من المخاطر، وهو ما يؤثر على خصوبتها ويعرض إنتاجها وكائناتها الحية المعتمدة عليها للخطر.
علاقة التربة بالتغيرات المُناخية
تواجه التربة تأثيرًا مباشرًا من التغيرات الطارئة في نسب الغازات والتغيرات في درجات الحرارة في الغلاف الجوي، حيث ترتبط بالغلاف الجوي مباشرة. على الرغم من أن تغيرات التربة الناجمة عن التغير المناخي تستغرق وقتًا طويلاً وتحدث على مدار سنوات، إلا أنها تؤثر بشكل كبير على جودة التربة وإنتاجية المحاصيل الزراعية. ومع ذلك، قد يتأثر النبات بسرعة أكبر من التربة نفسها.
وعلى المدى البعيد، ينتج عن هذه التأثيرات العديد من الخسائر، بما في ذلك:
- انخفاض خصوبة التربة: يمكن أن تتأثر التربة بتغيرات في التركيب الكيميائي والفيزيائي الناتجة عن التغير المناخي، مما يؤدي إلى انخفاض خصوبتها وتدهور جودتها.
- تدهور المحاصيل الزراعية: يمكن أن يتسبب التغير المناخي في انخفاض إنتاجية المحاصيل وجودة المحصول، بسبب تأثيراته السلبية على توافر المياه، وتغيرات في درجات الحرارة، وزيادة التعرض للأمراض والآفات الزراعية.
- فقدان التنوع البيولوجي: يعيش العديد من الكائنات الحية في التربة، مثل البكتيريا والفطريات والديدان، وتتأثر هذه الكائنات بشكل سلبي بالتغير المناخي، مما يؤدي إلى فقدان التنوع البيولوجي في التربة.
- زيادة التعرية الأرضية: يمكن أن يؤدي التغير المناخي إلى زيادة التعرية الأرضية وتآكل التربة، بسبب زيادة تكرار الفيضانات والعواصف الرملية وانخفاض مستويات المياه الجوفية، مما يعزز عملية تآكل التربة وتدهورها بشكل مستمر.
- زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة: يساهم التغير المناخي في زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة، مثل ثاني أكسيد الكربون، مما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة وتغيرات في النظام المناخي، وهذا يؤثر بشكل سلبي على عملية تكوين وتراكم التربة.
- تهديد الأمن الغذائي: نتيجة لتأثيرات التغير المناخي على التربة والمحاصيل الزراعية، يمكن أن يتعرض الأمن الغذائي للتهديد. فقد يحدث نقص في إمدادات الغذاء وزيادة في أسعار المواد الغذائية، مما يؤثر على قدرة الأفراد على الحصول على غذاء صحي ومتوازن.
ليس ذلك فقط ، فالتغيرات المُناخية تتسبب بالمزيد من المخاطر للتربة وما تؤوي من كائنات حية
تهوية التربة وتنفس الكائنات الدقيقة فيها
ضمن الظروف الطبيعية، يزداد نشاط ونمو الكائنات الدقيقة في التربة مع ارتفاع درجات الحرارة، ويتراجع نشاطها عندما تنخفض درجات الحرارة. ومع ذلك، في ظل التغيرات المناخية التي يشهدها كوكبنا، فإن ارتفاع درجات حرارة الغلاف الجوي على المدى البعيد يؤثر على نشاط الكائنات الحية الدقيقة، مما يؤثر بدوره على عملية التنفس لهذه الكائنات الدقيقة. وتعد عمليات التنفس مهمة بشكل كبير لتهوية التربة وتحلل المادة العضوية، حيث تساعد في تحسين جودة التربة وزيادة كفاءة عملية تحلل المواد العضوية، بالإضافة إلى إطلاق ثاني أكسيد الكربون.
تهوية التربة، التي تعكس جودة نمو النباتات والتربة بشكل عام، تتأثر بدرجة النشاط الحيوي للكائنات الدقيقة. بالتالي، يمكن أن يؤدي ارتفاع درجات الحرارة المستمر والمطول إلى تأثير سلبي على عملية التنفس وتهوية التربة، مما يؤثر سلبًا على جودة التربة ونمو النباتات فيها.
مع ارتفاع درجات الحرارة، يمكن للغلاف الجوي أن يحتفظ بمزيد من الرطوبة
يعزز ارتفاع درجات الحرارة قدرة الهواء على استيعاب المزيد من البخار المائي، حيث يحتفظ الهواء بحوالي 7% من الرطوبة إضافية لكل درجة مئوية. وتزيد الرطوبة المتزايدة في الغلاف الجوي من احتمالية حدوث عواصف وهطول أمطار غزيرة.
ومع ذلك، يمكن أن تؤدي هذه الرطوبة الزائدة إلى تأثير سلبي على جودة المحاصيل وتعرية التربة. حيث يمكن أن تتسبب الأمطار الغزيرة والعواصف في تعرية التربة وتسرب المواد الغذائية الحيوية والعناصر المعدنية الضرورية من الطبقة العلوية من التربة. هذا يؤثر على خصوبة التربة وقدرتها على دعم نمو النباتات بشكل صحي.
وبحسب تقارير صادرة عن الوكالة الأوروبية للبيئة في عام 2016، تم اكتشاف تأثير التغير المناخي على تربة القارة الأوروبية، حيث انخفضت مستويات الرطوبة في بعض المناطق. هذا التغير في الرطوبة يمكن أن يؤثر على جودة التربة ويتطلب تحسين إدارتها وتنفيذ ممارسات زراعية مستدامة للحفاظ على صحة التربة وزيادة إنتاجية المحاصيل في مواجهة التغير المناخي المتزايد.
مع ارتفاع درجات الحرارة، يزداد معدل التبخر فوق البحار والمحيطات، مما يؤثر على دورة المياه
دراسة نشرت في مجلة "نيتشر" في فبراير/شباط 2022 أكدت أن الغازات الدفيئة تسببت في ارتفاع درجة حرارة الأرض وتأثرت دورة المياه نتيجة لذلك. وأظهرت الدراسة أن المناطق الجافة أصبحت أكثر جفافًا، في حين أصبحت المناطق الرطبة أكثر رطوبة. فقد زادت كمية الأمطار بنسبة 7% في المناطق الرطبة وقلت بنفس النسبة في المناطق الجافة، مما أثر على جودة التربة في المناطق الجافة.
أكد الدكتور ياسين السوداني، أستاذ البيئة النباتية في جامعة كفر الشيخ، في حديثه لـ"العين الإخبارية" عبر "واتس آب" أن التغير المناخي سيؤدي إلى زيادة كمية هطول الأمطار في المناطق التي تتمتع بكميات كبيرة من الأمطار بالفعل، مثل المناطق الاستوائية، في حين ستزداد الجفاف في المناطق الصحراوية. وأوضح السوداني أن ذلك سيؤثر بشكل ما على الكائنات الحية الأخرى التي تعتمد على هذه المناطق بشكل مباشر أو غير مباشر.
بالتالي، فإن تأثير التغير المناخي على الأمطار والرطوبة ينعكس على جودة التربة ويؤثر على النظم البيئية والكائنات الحية المعتمدة على هذه البيئات. يلزمنا العمل المستدام واتخاذ إجراءات لمواجهة التغير المناخي وحماية التربة والتنوع البيولوجي للحفاظ على صحة النظم الإيكولوجية واستدامة الزراعة والحفاظ على الكائنات الحية
وفقًا لدراسة منشورة في مجلة "Nature" في يناير / كانون الثاني من العام 2019، فإن ارتفاع نسبة رطوبة التربة بسبب التغير المناخي سيؤدي إلى تراجع قدرتها على امتصاص الكربون. ومن المتوقع أن يصل معدل امتصاص الكربون في التربة إلى نقطة الذروة حوالي منتصف القرن الحالي. بعد ذلك، ستتحول التربة من كونها مستودعًا للكربون إلى مصدر لثاني أكسيد الكربون، مما يزيد من غازات الاحتباس الحراري ويسهم في ارتفاع درجة حرارة الكوكب.
هذا الاكتشاف يبرز أهمية حماية جودة التربة والحفاظ على قدرتها على تخزين الكربون. من الممكن تحقيق ذلك من خلال تطبيق ممارسات زراعية مستدامة مثل التناوب الزراعي وزراعة المحاصيل المتنوعة واستخدام المغطيات النباتية للحفاظ على رطوبة التربة وتقوية هيكلها.
بالإضافة إلى ذلك، يجب التركيز على تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والحد من التغير المناخي بشكل عام. يمكن ذلك من خلال تحسين كفاءة استخدام الطاقة وزيادة استخدام الطاقة المتجددة وتعزيز التوعية البيئية وتبني سلوكيات استدامة بيئية.
لذلك يجب العمل على حماية التربة والحفاظ على قدرتها على تخزين الكربون من خلال ممارسات زراعية مستدامة وجهود مكافحة التغير المناخي، وذلك للحفاظ على صحة كوكبنا واستدامة الموارد الطبيعية للأجيال القادمة.
حماية التربة من التغيرات المُناخية
بناءً على ذلك، فإن حماية وصون التربة تعد أمرًا ضروريًا للحفاظ على استدامة النظام البيئي وضمان توفر موارد غذائية كافية للأجيال الحالية والمستقبلية. وعليه يجب اتخاذ إجراءات جادة للحد من التغير المناخي وتعزيز ممارسات الزراعة المستدامة وإدارة الأراضي بطرق تحافظ على صحة وخصوبة التربة وتقلل من تأثيراته السلبية على البيئة والمجتمعات البشرية.
من الأمور التي يمكن اعتبارها للحفاظ على التربة وصونها هي تطبيق ممارسات الزراعة المستدامة، مثل تحسين إدارة المياه الزراعية والحفاظ على التنوع البيولوجي والتناوب الزراعي واستخدام الأسمدة العضوية وتقليل استخدام المبيدات الكيميائية الضارة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن تعزيز جودة التربة من خلال الحفاظ على التغطية النباتية، ومنع التصحر وتآكل التربة، وإدارة التربة بشكل سليم لتجنب التآكل وتهدير المياه وتلوثها.
وبالطبع، تحقيق التنمية المستدامة يتطلب أيضًا اتخاذ إجراءات للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة والتأكيد على الطاقة المتجددة وتحسين كفاءة استخدام الموارد.
إن حماية التربة هي عنصر أساسي للتنمية المستدامة والحفاظ على صحة النظم الإيكولوجية واستدامة الأمن الغذائي. يتطلب ذلك التعاون بين الحكومات والمنظمات الدولية والمزارعين والمجتمعات المحلية لتبني وتنفيذ سياسات وممارسات مستدامة للحفاظ على هذا الثروة الحيوية التي هي التربة.