كيف يمكن لبعض الروائح أن تحيي فينا ذكريات معينة
طقس العرب – كلنا مررنا بتلك اللحظة، تلك الرائحة التي تعيدنا عبر الزمن وتذكرنا بتجربة مميزة مررنا بها من قبل، للروائح تأثير خاص على كيفية تذكرنا للأشياء، لكن أليس غريباً كيف يمكن لبعض الروائح - حتى الروائح العادية - أن تحيي فينا ذكريات معينة؟
تأثير بروست (The Proust Effect)
في مطلع القرن العشرين، كتب الكاتب الفرنسي مارسيل بروست تحفته، وهي سلسلة من 7 مجلدات بعنوان "البحث عن الزمن المفقود" (In Search of Lost Time)، يتحدث الكتاب عن كيف نتذكر ماضينا؛ ويصف الكاتب بطريقة مميزة في بداية الكتاب أحد المشاهد الخاصة به والمرتبطة برائحة معينة، حيث تعيد لديه ذكريات الطفولة المنسية منذ زمن طويل، وتطلق العنان لسرد القصة بتفاصيلها، لذلك قرر علماء النفس وعلماء الأحياء العصبية تسمية تأثير الرائحة في إحياء الذكريات اسم "تأثير بروست".
كيف يعمل تأثير بروست؟
تخزن ذاكرتنا طويلة المدى الروائح التي نشمها مع التفاصيل المرتبطة بها مثل العواطف والأشخاص والمواقع والنباتات والحيوانات وما إلى ذلك، يبدو الأمر كما لو أن الدماغ يخلق مساعد لذكريات تلك التجربة باستخدام الرائحة كمفتاح، وبالتالي فإن شم هذه الروائح مرة أخرى سيؤدي إلى تذكر هذا الموقف بالذات، وتسمى هذه الظاهرة أيضًا "الذاكرة الشمية" (Olfactory Memory).
وقد أجرى العلماء دراسات لفهم تشريح الدماغ وكيف يعالج المنبهات الحسية ويخزن الذاكرة، وأثبتت هذه الدراسات أن الروائح تلعب دورًا مهمًا في الذاكرة، فمريض الزهايمر مثلا يجد صعوبة في التعرف على الروائح، وذلك لأن مرض الزهايمر يتسبب بتدهور جزء في الدماغ يسمى الحُصين (hippocampus)، وتبين للعلماء أن الحُصين جزء مهم في التعلم وتكوين الذكريات وهو مرتبط كذلك بحاسة الشم.
كيف يدرك الدماغ الرائحة؟
تدخل الجزيئات التي يتم استنشاقها إلى الأنف، حيث تصطدم بالمستقبلات الشمية، فتمرر المستقبلات هذه المعلومات إلى جزء من الدماغ يقع خلف الجبهة يسمى البصلة الشمية، تقوم البصلة الشمية بفك تشفير هذه المعلومات وتحديد ماهية الرائحة التي نشمها بالضبط، ثم تنقل الخلايا العصبية هذه المعلومات إلى اللوزة الدماغية.
واللوزة هي منطقة في الدماغ تفسر المعلومات العاطفية، مثل التجارب السعيدة أو الحزينة أو المضحكة. من هناك، تتحرك الإشارة إلى الأمام نحو الحُصين، أي أن عملية الشم تحفز منطقتين في الدماغ وهي اللوزة والحُصين.
تخيل أن شخصاً دخل إلى محل بقالة لشراء بعض الفراولة الحمراء النضرة، اشتم بعمق الرائحة الصادرة من الفراولة والتقط أنفه المركبات العطرية التي تعطي الفراولة رائحتها المميزة، بعدها تنتقل هذه المعلومات على شكل إشارات كهربائية إلى منطقتي اللوزة والحُصين، فيحيي هذا ذكرى الطفولة لديه عندما كان طفلاً يعاون والدته في صنع ميلك شيك الفراولة على الإفطار.
وهذا هو السبب في أن شم الشامبو الذي استخدمته والدتك عندما كنت طفلاً، ربما يجعلك تشعر بالحنين إلى طفولتك.
استخدام تأثير بروست في العلاج
قد يكون لتأثير بروست تطبيقات علمية عديدة، كأن يتم تعريض الناس لبعض الروائح التي تحيي لديهم الذكريات السعيدة، ويمكن استخدام هذا كطريقة علاج، فهذا المزاج الجيد الذي نشعر به أثناء استرجاع ذكريات الماضي له آثار مفيدة، إذ يعزز احترام الذات ويبعث في النفس التفاؤل، وتزداد العلاقة بين الماضي والحاضر قوة، كما أنه يعزز مشاعر الترابط الاجتماعي.
لكن هذا بالطبع يعتمد على التجارب الفردية، حيث يفسر الأفراد الروائح بشكل مختلف، وتعتمد طريقة تفسيرهم لها على تعرضهم للروائح المختارة والتجارب المرتبطة بها.
كيف يتم الاستفادة من تأثير بروست؟
تبنت بعض الشركات تأثير بروست لأغراض تسويقية، بحيث يتم ملأ بعض المنتجات بروائح خاصة تحمل معنى وتثير إحساسًا معيناً لدى الناس، فمثلا في التسعينات قامت شركة تنس بإضافة رائحة العشب على كرات التنس الخاصة بها، وعندما يفتح المستهلكون علبة كرات التنس، يغمرهم شعور أو ذكرى اللعب على العشب. وهناك شركات عطور تنتج روائح متعددة لإغراء حواس الشم لدى المستهلكين في محاولة لزيادة شعبيتها.
كما تستخدم الروائح المتعلقة بالأغذية والروائح الاصطناعية التي تحاكي النكهات الطبيعية ويتم اضافتها مع التعبئة والتغليف، فذلك يعمل على تحسين تجربة الناس لمنتجات الأطعمة والمشروبات.
أظهرت الدراسات أن المشاعر الإيجابية والحالات المزاجية الجيدة مفيدة للصحة العقلية، وأن الصحة العقلية الجيدة تعزز الصحة الجسدية وتطيل العمر، وبناء على هذا فإن إحدى الطرق العلاجية الشائعة هي استخدام الروائح لإثارة ذكريات سعيدة وممتعة.
وقد تم ربط جزء من الشعور بالراحة الذي يصيب الأشخاص الذين يلجؤون للأكل عند التوتر ناتج عن الرائحة، وعلى الرغم من أن دماغنا لا يقوم بتصنيف الإشارات الشمية، إلا أن هناك علاقة بين الوظيفة الإدراكية والشم. كلما استخدمت حاسة الشم أكثر، تولدت روابط أحدث وأقوى بين خلايا الدماغ.
لذا، انتبه أكثر للروائح في بيئتك، خذ نفساً عميقاً واستنشق الروائح الزكية المتنوعة التي تقدمها الحياة!