متلازمة الذاكرة المفرطة ونعمة النسيان التي يُحرم منها البعض
طقس العرب - في متلازمة "فرط الاستذكار"، تكمن نعمة النسيان التي يحُرم منها بعض الأشخاص. يُعاني هؤلاء الأفراد من حالة تجعلهم غير قادرين على نسيان تفاصيل حياتهم وتجاربهم الشخصية، بغض النظر عن مرور السنوات.
فرط الاستذكار
هو حالة تعيق بعض الأشخاص النادرين، حيث يكونون غير قادرين على نسيان التفاصيل اليومية ومحوها من ذاكرتهم. يمكننا تصوير هذه الحالة عبر عبارات قالها هؤلاء الأشخاص:
- "أستطيع تخيّل اليوم كما لو أنني عدت إلى هناك وأعيش اللحظة من جديد."
- "هناك أوقات أشعر فيها بأنني أمشي وسط البشر وجميعهم مصابون بفقدان الذاكرة."
- "ذاكرتي أشبه بمكتبة من أشرطة الفيديو، لكنها لمشاهد في كل يوم من حياتي من الاستيقاظ إلى النوم."
تلك العبارات تعكس تجربة هؤلاء الأفراد الذين يعانون من تلك الحالة النادرة والمميزة بالقدرة الاستثنائية على الاحتفاظ بكل التفاصيل بلا استثناء، مما يمنحهم ذاكرة مليئة بالتفاصيل والمشاهد اليومية التي يعيشونها.
هناك أشخاص يكافحون ذاكرتهم التي لا تنسى أبداً، حيث تجعلهم يعيشون كل حدث بكل تفاصيله كأنه يحدث للمرة الأولى، حتى يعيشون نفس الشعور في كل مرة يُعيدون فيها استحضار لذكرياتهم.
في هذه الحالة، تكون الذاكرة الاستثنائية والقوية جانبًا جيدًا ولكنه أيضًا تحديًا. فقد تسمح هذه القدرة بالاحتفاظ باللحظات الجميلة والذكريات القيمة، ولكنها قد تجلب أيضًا ذكريات مؤلمة وصعبة يحاول الشخص نسيانها.
بالتأكيد، قد تكون هذه الحالة نادرة ومعقدة، وتتطلب دعمًا نفسيًا وتفهمًا من الأفراد القريبين، حيث أن الشعور المستمر بإعادة عيش الذكريات يمكن أن يكون مجهدًا نفسيًا. من الجيد أن نتذكر أن التعامل مع الذاكرة المتميزة دائمًا يتطلب حساسية وحنانًا.
متلازمة "فرط الاستذكار" أو "الذاكرة الذاتية بالغة القوة" أو "هايبرثيميسيا" (Hyperthymesia)
هي حالة نادرة تجعل الشخص يتذكر تفاصيل حياته وتجاربه الشخصية بشكل استثنائي وشديد الدقة، دون أن ينسى شيئًا مهما مضى من الزمن. يمكن للأشخاص الذين يعانون من هذه الحالة استحضار الأحداث والتفاصيل بسهولة وكأنها تحدث في الوقت الحالي.
تلك الحالة تعتبر نادرة وليست شائعة بين الناس، وتبقى دراسة هذه الحالة قيد البحث. يُعتقد أن الذاكرة الذاتية القوية قد تكون نتيجة تفاعل بين عوامل وراثية وعوامل بيئية.
واحدة من أبرز الصعوبات التي يمكن أن يواجهها الأفراد المصابون بفرط الاستذكار هي القدرة على التعامل مع تلك الكمية الهائلة من التفاصيل والذكريات التي قد تكون مُرهِقة نفسيًا وتؤثر على الحياة اليومية.
يمكن لمجموعة صغيرة من الأشخاص أن تتذكر تفاصيل هائلة من حياتهم يوميًا. بالنسبة لمعظمنا، تكون الذاكرة مشابهة لمشاهد وقصاصات متقطعة وغير واضحة في بعض الأحيان، حيث قد تتلاشى بعض أجزاء ماضينا مع الوقت. ولكن بالنسبة لأصدقائنا الذين يُعانون من "فرط الاستذكار"، فإن ذاكرتهم شبه شريط يُسجِّل كل المشاهد بدقة، وعند استحضارهم لذكرياتهم يعودون لعيش تلك المشاهد مجددًا كأنها تحدث في الوقت الحاضر.
ذاكرتك القوية قد لا تعني بالضرورة أنك من مفرطي التذكر، فهؤلاء الأشخاص يتمتعون بقدرة استثنائية على التذكر.
يتضمن تذكرهم التفاصيل الدقيقة مثل التواريخ والمواقيت والمعلومات المعقدة. على سبيل المثال، نيما فيسيه الذي يُعد أحد مفرطي الاستذكار يمتلك قدرة فائقة على أن يُخبرك بدرجة الحرارة في يوم محدد من تاريخ ما، وما كان يرتديه ومن صادفه في طريقه، وكل ذلك على مدار أكثر من 20 عامًا من عمره.
إن هذه القدرة النادرة لمفرطي التذكر تجعلهم يمتلكون ذاكرة استثنائية تفوق العادة، وقد يعتبرونها نعمة أو نقمة تعيش معها. بالطبع، يتعين على هؤلاء الأشخاص التعامل مع هذه القدرة بحذر، حيث قد تؤثر على حياتهم اليومية والنفسية. قد يكون التذكر المستمر للتفاصيل التاريخية والمشاهد الماضية مجهدًا ومُرهِقًا نفسيًا.
ومع ذلك، فإن تجربة كل شخص من مفرطي التذكر فريدة، وقد تكون لهم طرق خاصة للتعامل مع هذه الحالة الاستثنائية التي تميزهم عن الآخرين.
كيف تم اكتشاف متلازمة "فرط الاستذكار"؟
في أوائل القرن 21، استلم عالم الأعصاب وباحث الذاكرة جيم ماكجو بريدًا إلكترونيًا من امرأة تُدعى جيل برايس وُلدت عام 1965، تحدثت فيه عن قدرتها على تذكُّر كل يوم من حياتها منذ أن كانت في سن الثانية عشر، وتحديدًا من يوم الثلاثاء الخامس من فبراير/شباط 1980. طلبت جيل من الباحث ماكجو مساعدته في فهم حالتها المميزة.
كانت هذه الفكرة غير مألوفة وصعبة التصديق؛ فكيف يمكن لشخص أن يتذكر تفاصيل حياته بدقة تامة دون نسيان؟ لذلك قرر ماكجو إجراء اختبارات على جيل للتحقق من صحة ما ذكرته. بدأ في طرح أسئلة عن الأحداث العالمية التي حدثت في أيام محددة، ولكانت جيل تُجيب بدقة متناهية في كل مرة. كما كان لديها مذكرات تساعد الباحثين في التحقق من ذاكرتها للأحداث الشخصية أيضًا، وكانت تكون دقيقة في تذكرها.
هذا الاكتشاف الأولي أظهر أن جيل برايس تعاني فعلًا من "فرط الاستذكار" وهي حالة نادرة جدًا تتيح لها القدرة الاستثنائية على الاحتفاظ بتفاصيل حياتها بشكل دقيق دون نسيان.
لم يكن ماكجو الوحيد الذي اختبر برايس في المرات التالية، فقد انضم إليه فريق آخر واستمرت دراسة حالتها لسنوات. قرروا تعقيد الاختبارات بطلب منها تسمية التواريخ التي زارتهم فيها، أو ترتيب قائمة بمواعيد الباحثين وتذكُّر مواعيدهم التي لم يتذكروها هم أنفسهم. وفقًا لما ذكرته شبكة "بي بي سي" البريطانية.
الميزة والعيب في متلازمة "فرط الاستذكار" هما واحد. حيث لا يمكن برايس أن تنسى يوم وفاة زوجها وهي تواجه مرارة تكرار ذلك المشهد بشكل مستمر. لكنها في الوقت نفسه تستطيع أن تُعيد إحياء أيامٍ سعيدة جمعتها بزوجها وتتذكرها بالتفاصيل.
بعد ذلك، أصبحت برايس محط اهتمام المجلات والأفلام الوثائقية. وقد نشرت كتابًا بعنوان "المرأة التي لا تنسى" عام 2008، يُوثِّق فيه تجربتها مع متلازمة "فرط الاستذكار". تم اكتشاف حالات نادرة أخرى لأشخاص يعانون من حالة مشابهة لبرايس، وتقدر هذه الحالات بأنها تحدث لأقل من 60 شخصًا في العالم. تسعى الأبحاث حاليًا لفهم سبب تلك القدرة الاستثنائية على التذكر.
ما هو التفسير العلمي لفرط الاستذكار؟
تُعَدُّ الحالات التي يدرسها الباحثون نادرة، ومع ذلك هناك العديد من الافتراضات التي لم تحسم بعد. ومن بين هذه الافتراضات، أجريت دراسة عام 2014 توصلت إلى اعتقاد بأن السبب وراء فرط الاستذكار قد يكون بيولوجيًا. يعتقد الباحثون أن الأشخاص الذين يعانون من هذه الحالة يتمتعون بنشاط مفرط في أجزاء محددة من الدماغ. وعلى الرغم من أن الفحوص الشاملة للدماغ لم تكشف عن اختلافات تشريحية كبيرة تفسر متلازمة "فرط الاستذكار"، فإنه تم الاكتشاف أن هناك اختلافات بسيطة في بعض الفصوص الأمامية في المخ (المسؤولة عن التفكير التحليلي) والحصين (المسؤول عن تخزين الذكريات) قد تكون نتيجة تطور مهاراتهم.
يبقى هذا الموضوع قيد البحث والاستكشاف، وهو مجرد تحليل علمي مبدئي للحالة. يتطلب التوصل إلى نتائج نهائية وأدق فهمًا أكثر أبحاثًا إضافية ودراسات علمية متعمقة. فالمتلازمة لا تزال غامضة للغاية، وقد يستغرق الوقت لكشف أسبابها الدقيقة وآلياتها بشكل كامل.
توجد اعتقادات أخرى تشير إلى أن السبب وراء فرط الاستذكار قد يكون وراثيًا أو نفسيًا. يُرتبط هذا الاعتقاد بربط العلماء بين التجارب التي بدأت عندما بدأ التذكر الفائق وارتباطها بالقلق الشديد والتفكير المستمر في أحداث معينة بصورة مستمرة. ويُعزى ذلك إلى قدرتهم على الاحتفاظ بالمشاهد بكل تفاصيلها بمهارة.
تركز هذه النظرية على أن العوامل الوراثية قد تكون لها دور في تحديد قدرة الشخص على تذكر بشكل فائق. يُعتقد أن هناك تأثيرًا وراثيًا على تركيب الدماغ ووظائفه العصبية المرتبطة بالذاكرة، والذي قد يُسهم في هذه القدرة الاستثنائية.
بالإضافة إلى ذلك، يُعتَقَد أن العوامل النفسية، مثل القلق الشديد والتفكير المستمر في أحداث معينة، يمكن أن تلعب دورًا في تعزيز تلك القدرة على الاحتفاظ بالتفاصيل بدقة. قد يكون للشعور بالارتباط العاطفي القوي بأحداث معينة تأثير إيجابي على قدرة الشخص على تذكّرها بكل تفاصيلها.
يبقى هذا الاعتقاد قيد البحث والتحليل، وتحتاج هذه النظرية إلى المزيد من الأبحاث والدراسات لفهم أسباب فرط الاستذكار بشكل أوضح وأكثر دقة. ومع ذلك، تعتبر هذه النظرية إضافة مهمة للتفسيرات المحتملة لهذه المتلازمة النادرة.
هل مُتلازمة الذاكرة المُفرطة نعمة أو نقمة؟
بالنسبة لمفرطي التذكر، فإنهم يتمتعون بقدرات تذكر استثنائية تختلف عن البشر العاديين؛ فعندما يمرون بحدث ويحاولون استرجاعه بعد مرور فترة من الزمن، ستختلف طريقة تذكرهم عن تلك التي يعاني منها معظم الناس. ففي حالة معظمنا، تبهت بعض التفاصيل وتتغير أخرى عندما نحاول استعادة الحدث بعد أسبوع أو شهر أو حتى سنة، بينما يروي مفرطي التذكر المشهد كاملاً أمام عيونهم فور محاولة استذكاره.
وفي النهاية، إن كانت هذه القدرة على الاحتفاظ بذاكرة دقيقة تُعَدُّ نعمة أم نقمة تعتمد على الشخص نفسه وظروف حياته. فقد يجد بعض مفرطي التذكر أن هذه القدرة تُعتَبَر نعمة، حيث يُمكِنُهم استعادة ذكرياتهم بكل تفاصيلها واستفادة ذلك في حياتهم اليومية، في حين يمكن لآخرين أن يعتبروا ذلك نقمة، حيث يمكن أن تكون هذه القدرة على التذكُّر الشديد قاسية عليهم، وتسبب لهم القلق والتوتر الناتج عن عدم قدرتهم على نسيان بعض التفاصيل العاطفية أو المؤلمة.
بالتالي، يُمكن اعتبار الذاكرة القوية نعمة أو نقمة حسب السياق الشخصي والاستخدام الذي يجعله المرء لها في حياته.
قصة لمُصابة بمتلازمة الذاكرة المُفرطة
كان للويز أوين، مريضة بالهايبرثيميسيا التي أجرت مقابلةً مع برنامج 60 Minutes عام 2010، رد فعلٍ قوي حين ذكر المراسل يوماً غير سعيد من ماضيها.
فلمجرد ذكره يوماً سيئاً مثل ذلك اليوم في عام 1986 حين علمت إنّ عليها تغيير مدرستها، استحضرت لويز الذكريات بعواطف جياشة. وأوضحت: "شعرت أن عالمي ينهار بالكامل. وبمجرد أن ذكرت اليوم، شعرت فجأةً وكأنّني عدت لأكون تلك الفتاة الصغيرة الحزينة في الـ13 من عمرها مرةً أخرى".
وأضافت أن المشاعر كانت قوية وفظيعة، حتى بعد كل تلك السنوات: "أعني، كان قلبي ينبض بقوةٍ الآن وأنا أُخبرك بهذا".
الذاكرة المُفرطة والذاكرة الاستدلالية
هناك تمييز بين "فرط الاستذكار" والذاكرة الاستدلالية أو التخيلية، حيث يُفهم "فرط الاستذكار" على أنه القدرة على استرجاع تفاصيل حياة الشخص بدقة استثنائية بمجرد محاولة الاستذكار، بينما تشمل الذاكرة الاستدلالية القدرة على استدعاء صورة مشاهدة مرة واحدة فقط لفترة قصيرة.
وعلى الرغم من هذا التمييز، يرون بعض العلماء أن استيعاب حالات مفرطي الاستذكار قد يساعد في تعزيز قوة التذكر بتدريبنا على استرجاع المشاهد بشكل مفصل ومستمر بعد حدوثها لترسخ في الذاكرة بشكل أكبر. ولكن الأمر ليس سهلاً، حيث يشير نيما فيسيه - الذي زار العديد من الدول ودخل معارض فنية - إلى صعوبة تذكر تفاصيل اللوحات في جميع المعارض بين 40 دولة.
هذه القدرة ليست دائماً ميزة، فقد ساعدت نيكول دونوهيو على تذكر معلومات دراستها وتخيل ما قاله المعلم أو كيف كانت الكتب، مما جعلها مدرسة تاريخ ذاكرتها قوية. ومع ذلك، تواجه صعوبة في نسيان اللحظات المحرجة والصعبة مهما حاولت، حيث تشعر بنفس المشاعر التي عاشتها ولا يمكنها إيقاف تدفق الذكريات بغض النظر عن صعوبة المحاولة.
وبالنسبة لنيما، فإن اللحظات العصيبة تشبه الجروح المفتوحة، ورغم كثرة نصائح السامح وانس، يعتبر ذلك "ترفًا لا يملكه".
متلازمة الذاكرة المُفرطة لا تحمي من الذكريات الخاطئة
أشار مقالٌ نشرته صحيفة PNAS العلمية عام 2013 إلى أنه بالرغم من ذاكرتهم الفائقة، لكن الأشخاص المصابين بالهايبرثيميسيا لا يزالون عرضةً للذكريات الخاطئة، حيث إن المصابين بالهايبرثيميسيا كانوا عرضةً لتذكر مشاهد إخبارية لا وجود له مثلاً.
المصادر: