هل ينذر انحراف الدوامة القطبية جنوبا ببدء عصر جليدي كما حدث بالفعل منذ عشرات الآلاف من السنين؟
طقس العرب - وجد بحث جديد أن انخفاض متوسط درجة الحرارة العالمية (7.8 درجة مئوية) خلال آخر ذروة جليدية كان مرتبطا مع انحراف الدوامة القطبية جنوبًا مقارنةً بما هي عليه اليوم، جلب هذا الانحراف برودة شديدة وزاد من الغلاف الجليدي العالمي، وارتفعت كتل الجليد القارية عشرات الأمتار عن مستوى سطح البحر. واليوم، قد نواجه ظروف الشتاء الأسوأ من حيث درجات الحرارة الباردة بسبب انحراف الدوامة القطبية جنوباً، فهل نشهد عصرا جليديا آخر؟
يعد تقلب الدوامة القطبية هو المحرك الرئيسي لأعظم موجات البرد التي تؤثر على الولايات المتحدة وأوروبا، فما هي الدوامة القطبية؟ وكيف ساهمت في حدوث العصر الجليدي الأخير؟
ما هي الدوامة القطبية؟
تُعرف الدوامة القطبية (Polar Vortex) بأنها عبارة عن نظام منخفض الضغط موجود بشكل شبه دائم فوق القطب الشمالي مباشرة، وهي منطقة كبيرة من الهواء البارد الدوار الذي يحيط بكلتا المنطقتين القطبيتين.
بمعنى آخر، هي تدفق للرياح عند خطوط العرض العليا، بحيث يؤدي هذا النظام الذي يتدفق حول الأرض، إلى ظهور خطوط متساوية ومغلقة على شكل دوائر متحدة المركز تقريبًا، تبدو كدوامة عندما يُنظر إليها من فوق القطب الشمالي مباشرة.
وقد يستخدم مصطلح أبسط وأكثر عمومية بدلا من الدوامة القطبية، وهو الجبهة القطبية (Polar Front)، إذ تفصل الجبهة القطبية بشكل مثالي الهواء البارد في القطب الشمالي عن الهواء شبه الاستوائي الأكثر اعتدالًا في خطوط العرض الوسطى.
ويمكن النظر إلى الدوامة القطبية على أنها نظام دوران بارد ومستقر موجود بشكل شبه دائم، ويصف ظاهرتين متميزتين هما: الدوامة القطبية الستراتوسفيرية، والدوامة القطبية التروبوسفيرية.
الدوامة القطبية الستراتوسفيرية (Stratospheric Polar Vortex):
عبارة عن نظام ضغط منخفض واسع النطاق ينشط بشكل خاص في فصل الشتاء البارد، وتقع الرياح الدوارة عالية السرعة على ارتفاع ما بين 15 - 50 كيلومترًا. تقوى الدوامة القطبية الستراتوسفيرية وتمتد في الخريف وتتقلص في الربيع، وتغيب في الصيف لأن نشأتها الخريفية ناتجة عن الهواء البارد المتكون في مناطق القطب الشمالي.
الدوامة القطبية التروبوسفيرية (Tropospheric Polar Vortex):
تُعرَّف على أنها المنطقة القطبية للتيار النفاث التروبوسفيري، والتي تمتد من الأرض وحتى ارتفاع حوالي 10- 15 كيلومترًا، وهي موجودة على مدار السنة، على عكس الدوامة القطبية الستراتوسفيرية، لكن يمكن أن تُعرض الأحداث المؤقتة وجودها للخطر، على سبيل المثال، قد يتسبب تجزئها وهبوطها باتجاه خطوط العرض الوسطى في سيادة البرد الشديد في أوروبا أو الولايات المتحدة.
حركة الدوامة القطبية
يمكن تخيل منطقة الضغط المنخفض للدوامة القطبية على أنها قمة كبيرة على ارتفاع عالٍ مع حركة دورانية عكس اتجاه عقارب الساعة، تتمحور حول القطب الشمالي. من ناحية أخرى، في طبقة التروبوسفير، يكون نظام الضغط السائد هو الضغط العالي. كلما زادت سرعة الدوران وزادت كثافة الدوامة، انخفض احتمال نزول البرد القطبي باتجاه خطوط العرض الوسطى.
وإذا ضعفت الدوامة القطبية، فإن التيار النفاث (Jet Stream) يميل إلى أن يكون أكثر تعرجًا، هذا يسمح للهواء البارد في القطب الشمالي بالهبوط فجأة في خطوط العرض التي تؤثر على أمريكا الشمالية أو أوروبا الغربية.
وفي بعض الأحيان تتعمق دوامة الستراتوسفير نحو الأسفل محدثة دوامة تروبوسفيرية، بحيث يغذي كل منهما الآخر.
قياس شدة الدوامة القطبية
يتم قياس شدة الدوامة القطبية بواسطة تذبذب القطب الشمالي (Arctic Oscillation) أو كما يرمز له (AO)، والذي يرتبط بشكل وثيق مع تذبذب شمال الأطلسي (North Atlantic Oscillation) أو (NAO)، والذي يعتمد على الاختلافات في الضغط الجوي بين أيسلندا وجزر الأزور.
وفي المحيط الهادئ، تذبذب شمال المحيط الهادئ (North Pacific Oscillation) أو (NPO) هو تذبذب للضغط الجوي ودرجة حرارة سطح البحر في شمال المحيط الهادئ، والذي يعتبر من بين العوامل التي تؤثر على درجة حرارة الشتاء في معظم أنحاء أمريكا الشمالية.
يرتبط مؤشر NPO المنخفض بالرياح الجنوبية على طول الساحل الغربي لأمريكا الشمالية، والتي تميل إلى جلب هواء أكثر دفئًا إلى المنطقة، ويجلب مؤشر NPO العالي تدفق هواء شمالي، مع الحركة المقابلة في منطقة الهواء البارد شبه القطبي.
لذلك فإن الدوامة القطبية هي نظام جوي ومناخي يجب مراقبته طوال الوقت، خاصة مثلا عندما يحدث الاحترار الستراتوسفيري المفاجئ (Sudden Stratospheric Warming)، والذي يزعزع الدوامة القطبية.
ففي غضون أسابيع قليلة من الاحترار الستراتوسفيري المفاجئ، يتجه هواء القطب الشمالي بسرعة كبيرة نحو خطوط العرض الجنوبية، مما يؤدي إلى تفشي البرد مع انخفاض كبير في درجات الحرارة، ومع ذلك، فإن القضية الرئيسية مرتبطة بحقيقة أنه عندما يحدث الاحترار الستراتوسفيري المفاجئ، فنحن على يقين تقريبًا من أنه سيكون هناك تحرك هواء القطب الشمالي البارد باتجاه خطوط العرض الجنوبية، لكن يصعب تحديد المنطقة بدقة التي سيؤثر عليها البرد، بحيث تصل أحيانا إلى الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية.
ومن الناحية العملية، فإن انزياح الدوامة القطبية نحو الجنوب ، كما حدث في مناسبات عديدة في الماضي، يعيد أوروبا والولايات المتحدة إلى الظروف الجوية التي سادت خلال آخر ذروة جليدية (Last Glacial Maximum).
كيف كانت ذروة العصر الجليدي الأخير على الأرض
يشير مصطلح "آخر ذروة جليدية" أو الحد الأقصى الجليدي الأخير (Last Glacial Maximum) إلى آخر وقت كانت فيه الصفائح الجليدية في أقصى امتداد لها على الأرض، وذلك كان خلال العصر الجليدي الأخير. تُظهر الصورة أدناه توزيع الصفائح الجليدية والأنهار الجليدية التي كانت خلال آخر ذروة جليدية في نصف الكرة الشمالي.
في دراسة حديثة نُشرت في المجلة العلمية المرموقة "ناتشر" (Nature)، حسب العلماء كيف كان متوسط درجة الحرارة العالمية خلال آخر ذروة جليدية قبل حوالي عشرين ألف سنة، حيث استخدم فريق البحث نماذج تربط البيانات من أحافير العوالق المحيطية بدرجة حرارة سطح البحر، وتم ربط البيانات الأحفورية بمحاكاة نماذج المناخ لآخر ذروة جليدية، للتنبؤ بما كان عليه المناخ.
وقام فريق العلماء بحساب توازن حساسية المناخ (Equilibrium Climate Sensitivity)، حيث تُعرف حساسية المناخ بأنها مقياس لمدى برودة مناخ الأرض أو ارتفاع درجة حرارته بعد حدوث تغير في نظام المناخ، مثل مقدار ارتفاع درجة الحرارة بعد تضاعف تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الجو.
تم حساب توازن حساسية المناخ عند 3.4 درجة مئوية، عندما كانت مستويات الكربون خلال العصر الجليدي حوالي 180 جزءًا في المليون، ثم ارتفعت إلى حوالي 280 جزءًا في المليون خلال الهولوسين (آخر عصر جليدي) ، ووصلت الآن إلى 419 جزءًا في المليون.
خلال ذروة العصر الجليدي الأخير، كانت درجة حرارة الأرض المحسوبة بهذه الطريقة على الأرجح 7.8 درجة مئوية (46 درجة فهرنهايت)، بانخفاض يساوي -6.1 درجة مئوية مقارنة بفترة ما قبل الصناعة ( ما قبل عام 1850)، بينما كان متوسط درجة الحرارة العالمية في القرن العشرين 14 درجة مئوية، ومتوسط درجة حرارة الأرض الحالية تقترب الآن من 15 درجة مئوية.
في الوقت الحاضر، مع تأثير ظاهرة الاحتباس الحراري، تتأثر بعض مناطق الكوكب بشكل مختلف بتغير المناخ، لذلك بردت مناطق القطب الشمالي من الكوكب بمقدار الضعف خلال ذروة العصر الجليدي الأخير، بحيث كانت درجة الحرارة أقل بنحو 14 درجة مئوية عن اليوم، وتأثرت كذلك المناطق الجبلية، وربما بردت جبال الألب الأوروبية بنحو 10 درجات مئوية مقارنة بقيم ما قبل الصناعة.
أدى المناخ الأكثر برودة بلا ريب إلى استجابة الغلاف الجليدي للكوكب، حيث توسعت الصفائح الجليدية وتشكلت طبقات جديدة. وفي شمال أوروبا ، غطت الصفيحة الجليدية الأوراسية الدول الاسكندنافية، وجزء من شمال أوروبا، وجزء من الجزر البريطانية حتى أيرلندا.
تأثرت أوروبا الوسطى بالكامل بالأرض المتجمدة والتربة الصقيعية التي بلغ عمقها في بعض الحالات مئات الأمتار، وتشير التقديرات إلى أن الطبقة الجليدية الأوراسية بلغ سمكها الأقصى حوالي 3000 متر (9800 قدم).
حتى اليوم، وبسبب وزن هذه الكتلة الجليدية الهائلة، تتعرض الدول الاسكندنافية في الجزء القاري الاسكندنافي إلى ظاهرة توازن ضغط القشرة الأرضية (Isostasy)، أي تستمر القشرة الأرضية في الارتفاع ببطء خاصة في المنطقة الوسطى حيث كان الغطاء الجليدي أكثر سمكًا.
حدث نفس الشيء في أمريكا الشمالية، كان سمك الغطاء الجليدي في أمريكا الشمالية حوالي 3 كيلومترات وغطى أمريكا الشمالية من القطب الشمالي الكندي وصولاً إلى ولاية ميسوري الأمريكية الحديثة.
اندفعت الصفيحة الجليدية لأمريكا الشمالية جنوبًا إلى خط عرض سياتل وبسمارك وماديسون ونيويورك، وامتد جزء بالقرب من الساحل الشرقي للولايات المتحدة في خط العرض إلى مدن إنديانابوليس وكولومبوس وبيتسبرغ.
ولكن وجود الصفائح الجليدية الكبيرة هو الذي أدى إلى تغيير الدوران العالمي العام، فضلاً عن حجم الجليد البحري. ففي المحيط الأطلسي، أحاط الجليد البحري بكامل جرينلاند وأيسلندا، ووصل الجليد البحري الموسمي إلى سواحل فرنسا وأحيانًا شمال إسبانيا. وفي المحيط الهادئ، حاصر الجليد البحري بالكامل جزر ألوشيان في ألاسكا، وربطت مساحة شاسعة من اليابسة، تسمى Beringia ، سيبيريا بألاسكا.
وقد ساهم ذلك في نمو الأنهار الجليدية في جبال الألب الأوروبية بفضل زيادة هطول الأمطار، ودخلت الرطوبة البحر الأبيض المتوسط من الغرب بفضل الجبهة القطبية الجنوبية المتحولة، لتتغذى بهذه الطريقة الأنهار الجليدية في جبال الألب.
ما الذي يسبب العصر الجليدي؟
ترتبط أسباب العصور الجليدية بشكل خاص بالتأثيرات الفلكية، إذ أدت الاختلافات في الانحراف والميل المحوري للأرض، إلى تباين دوري في الإشعاع الشمسي الذي يصل إلى الأرض، مما يؤثر بقوة على أنماط مناخ الأرض، ويؤدي التذبذب الدوري إلى حدوث تجمعات جليدية كل 100 ألف سنة.
يكمل محور الأرض دورة تذبذبية (precession cycle) كل 26 ألف سنة، ويكمل المدار الإهليلجي دورة واحدة كل 22 ألف سنة، كما تختلف الزاوية بين محور الأرض والخط الطبيعي للمستوى المداري بشكل دوري بين 22.5 درجة و 24.5 درجة خلال فترة 41 ألف سنة.
تؤدي التأثيرات المجتمعة لهذه الأنواع الثلاثة من الدورات المدارية إلى اختلاف كمية الطاقة الشمسية التي تصل إلى الأرض في مواسم مختلفة، خاصة عند خطوط العرض العليا.
خلال العصر الجليدي يسود الطقس البارد مع انحراف الدوامة القطبية نحو الجنوب، يزداد تساقط الثلوج ويقل معدل ذوبانها في فصول الصيف القصيرة، مما يتسبب في تجميد كميات هائلة من المياه العذبة في الجليد القاري.
ويساعد العصر الجليدي في النهاية، على إزالة جزء من ماء الغلاف الجوي من الدورة الهيدرولوجية للأرض، والنتيجة المباشرة هي انخفاض مستوى سطح البحر على مستوى العالم.
(تظهر الصورة مناطق اليابسة (باللون الأحمر) والتي ظهرت خلال ذروة العصر الجليدي الأخير في أوروبا بسبب انخفاض مستوى البحر)
لذلك، فإن الدوامة القطبية هي بنية أرصاد جوية ومناخية معروفة جيدًا اليوم، مرتبطة بالبرد القارس والثلج والعواصف الثلجية التي يجلبها معه.
شكلت الدوامة القطبية، في الماضي ، عنصرًا أساسيًا في تعديل التغيرات في تاريخ مناخ الأرض واستجابت أيضًا للتغيرات في البارامترات المناخية. على وجه الخصوص، تميزت 2.56 مليون سنة الماضية بسلسلة من العصور الجليدية العودية وفترات أقصر بين العصور الجليدية.
واليوم، يمكننا تجربة بعض الظروف التي سادت خلال العصر الجليدي الأخير، بفضل الانحراف الجنوبي للدوامة القطبية، فللدوامة القطبية القدرة على أن تحضر لنا خلال وقت قصير، بعض الظروف التي كانت الأرض تشهدها قبل 20 ألف عام.